كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



إنها القيادة الجديدة للبشرية جمعاء. القيادة الحازمة المستقيمة على نهج واضح ويقين ثابت. تدعو إلى الله على بصيرة. وتستقيم على أمر الله دون انحراف. وتنأى عن الأهواء المضطربة المتناوحة من هنا وهناك. القيادة التي تعلن وحدة الرسالة ووحدة الكتاب ووحدة النهج والطريق. والتي ترد الإيمان إلى أصله الثابت الواحد، وترد البشرية كلها إلى ذلك الأصل الواحد: {وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب}.. ثم هو الاستعلاء والهيمنة بالحق والعدل.
{وأمرت لأعدل بينكم}.. فهي قيادة ذات سلطان، تعلن العدل في الأرض بين الجميع.
(هذا والدعوة بعد في مكة محصورة بين شعابها مضطهدة هي وأصحابها. ولكن طبيعتها المهيمنة الشاملة تبدو واضحة). وتعلن الربوبية الواحدة: {الله ربنا وربكم}.. وتعلن فردية التبعة: {لنا أعمالنا ولكم أعمالكم}.. وتعلن إنهاء الجدل بالقول الفصل: {لا حجة بيننا وبينكم}.. وتكل الأمر كله إلى الله صاحب الأمر الأخير: {الله يجمع بيننا وإليه المصير}..
وتكشف هذه الآية الواحدة عن طبيعة هذه الرسالة الأخيرة، في مقاطعها القصيرة الفاصلة على هذا النحو الجامع الحازم الدقيق. فهي رسالة جاءت لتمضي في طريقها لا تتأثر بأهواء البشر. وجاءت لتهيمن فتحقق العدالة في الأرض. وجاءت لتوحد الطريق إلى الله كما هو في حقيقته موحد على مدى الرسالات.
وبعد وضوح القضية على هذا النحو، واستجابة العصبة المؤمنة لله هذه الاستجابة، يبدو جدل المجادلين في الله مستنكرًا لا يستحق الالتفات، وتبدو حجتهم باطلة فاشلة ليس لها وزن ولا حساب. فتنتهي هذه الفقرة بالفصل في أمرهم، وتركهم لوعيد الله الشديد:
{والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد}..
ومن تكون حجته باطلة مغلوبة عند ربه فلا حجة له ولا سلطان. ووراء الهزيمة والبطلان في الأرض، الغضب والعذاب الشديد في الآخرة. وهو الجزاء المناسب على اللجاج بالباطل بعد استجابة القلوب الخالصة؛ والجدل المغرض بعد وضوح الحق الصريح.
ثم يبدأ جولة جديدة مع الحقيقة الأولى:
{الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان وما يدريك لعل الساعة قريب يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق ألا إن الذين يمارون في الساعة لفي ضلال بعيد الله لطيف بعباده يرزق من يشاء وهو القوي العزيز من كان يريد حرث الآخرة نزد له من حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب}..
فالله أنزل الكتاب بالحق وأنزل العدل؛ وجعله حكما فيما يختلف فيه أصحاب العقائد السالفة، وفيما تختلف فيه آراء الناس وأهواؤهم؛ وأقام شرائعه على العدل في الحكم. العدل الدقيق كأنه الميزان توزن به القيم، وتوزن به الحقوق، وتوزن به الأعمال والتصرفات.
وينتقل من هذه الحقيقة. حقيقة الكتاب المنزل بالحق والعدل. إلى ذكر الساعة. والمناسبة بين هذا وهذه حاضرة، فالساعة هي موعد الحكم العدل والقول الفصل. والساعة غيب. فمن ذا يدري إن كانت على وشك:
{وما يدريك لعل الساعة قريب}..
والناس عنها غافلون، وهي منهم قريب، وعندها يكون الحساب القائم على الحق والعدل، الذي لا يهمل فيه شيء ولا يضيع..
ويصور موقف المؤمنين من الساعة وموقف غير المؤمنين:
{يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق}..
والذين لا يؤمنون بها لا تحس قلوبهم هولها، ولا تقدر ما ينتظرهم فيها؛ فلا عجب يستعجلون بها مستهترين. لأنهم محجوبون لا يدركون. وأما الذين آمنوا فهم مستيقنون منها، ومن ثم هم يشفقون ويخافون، وينتظرونها بوجل وخشية، وهم يعرفون ما هي حين تكون.
وإنها لحق. وإنهم ليعلمون أنها الحق. وبينهم وبين الحق صلة فهم يعرفون.
{ألا إن الذين يمارون في الساعة لفي ضلال بعيد}..
فقد أوغلوا في الضلال وأبعدوا، فعسير أن يعودوا بعد الضلال البعيد..
وينتقل من الحديث عن الآخرة والإشفاق منها أو الاستهتار بها، إلى الحديث عن الرزق الذي يتفضل الله به على عباده:
{الله لطيف بعباده يرزق من يشاء وهو القوي العزيز}..
وتبدو المناسبة بعيدة في ظاهر الأمر بين هذه الحقيقة وتلك.
ولكن الصلة تبدو وثيقة عند قراءة الآية التالية:
{من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وماله في الآخرة من نصيب}..
فالله لطيف بعباده يرزق من يشاء. يرزق الصالح والطالح، والمؤمن والكافر. فهؤلاء البشر أعجز من أن يرزقوا أنفسهم شيئًا؛ وقد وهبهم الله الحياة، وكفل لهم أسبابها الأولية؛ ولو منع رزقه عن الكافر والفاسق والطالح ما استطاعوا أن يرزقوا أنفسهم ولماتوا جوعًا وعريًا وعطشًا، وعجزًا عن أسباب الحياة الأولى، ولما تحققت حكمة الله من إحيائهم وإعطائهم الفرصة ليعملوا في الحياة الدنيا ما يحسب لهم في الآخرة أو عليهم. ومن ثم أخرج الرزق من دائرة الصلاح والطلاح، والإيمان والكفر، وعلقه بأسبابه الموصولة بأوضاع الحياة العامة واستعدادات الأفراد الخاصة. وجعله فتنة وابتلاء. يجزي عليهما الناس يوم الجزاء.
ثم جعل الآخرة حرثا والدنيا حرثا يختار المرء منهما ما يشاء. فمن كان يريد حرث الآخرة عمل فيه، وزاد له الله في حرثه، وأعانه عليه بنيته، وبارك له فيه بعمله. وكان له مع حرث الآخرة رزقه المكتوب له في هذه الأرض لا يحرم منه شيئا. بل إن هذا الرزق الذي يعطاه في الأرض قد يكون هو بذاته حرث الآخرة بالقياس إليه، حين يرجو وجه الله في تثميره وتصريفه والاستمتاع به والإنفاق منه.. ومن كان يريد حرث الدنيا أعطاه الله من عرض الدنيا رزقه المكتوب له لا يحرم منه شيئا. ولكن لم يكن له في الآخرة نصيب. فهو لم يعمل في حرث الآخرة شيئًا ينتظر عليه ذلك النصيب!
ونظرة إلى طلاب حرث الدنيا وطلاب حرث الآخرة، تكشف عن الحماقة في إرادة حرث الدنيا! فرزق الدنيا يتلطف الله فيمنحه هؤلاء وهؤلاء. فلكل منهما نصيبه من حرث الدنيا وفق المقدور له في علم الله. ثم يبقى حرث الآخرة خالصا لمن أراده وعمل فيه.
ومن طلاب حرث الدنيا نجد الأغنياء والفقراء؛ بحسب أسباب الرزق المتعلقة بالأوضاع العامة والاستعدادات الخاصة. وكذلك نجد الحال عند طلاب حرث الآخرة سواء بسواء. ففي هذه الأرض لا اختلاف بين الفريقين في قضية الرزق. إنما يظهر الاختلاف والامتياز هناك! فمن هو الأحمق الذي يترك حرث الآخرة. وتركه لا يغير من أمره شيئا في هذه الحياة؟!
والأمر في النهاية مرتبط بالحق والميزان الذي نزل به الكتاب من عند الله. فالحق والعدل ظاهران في تقدير الرزق لجميع الأحياء. وفي زيادة حرث الآخرة لمن يشاء. وفي حرمان الذين يريدون حرث الدنيا من حرث الآخرة يوم الجزاء..
ومن ثم يبدأ جولة أخرى حول الحقيقة الأولى:
{أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ولولا كلمة الفصل لقضي بينهم وإن الظالمين لهم عذاب أليم ترى الظالمين مشفقين مما كسبوا وهو واقع بهم والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك هو الفضل الكبير ذلك الذي يبشر الله عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات قل لا أسألكم عليه أجرًا إلا المودة في القربى ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنًا إن الله غفور شكور}..
في فقرة سابقة قرر أن ما شرعه الله للأمة المسلمة هو ما وصى به نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى، وهو ما أوحى به إلى محمد صلى الله عليه وسلم وفي هذه الفقرة يتساءل في استنكار عما هم فيه وما هم عليه، من ذا شرعه لهم ما دام الله لم يشرعه؟ وهو مخالف لما شرعه منذ أن كان هناك رسالات وتشريعات؟
{أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله}..
وليس لأحد من خلق الله أن يشرع غير ما شرعه الله وأذن به كائنا من كان؛ فالله وحده هو الذي يشرع لعباده. بما أنه سبحانه هو مبدع هذا الكون كله، ومدبره بالنواميس الكلية الكبرى التي اختارها له. والحياة البشرية إن هي إلا ترس صغير في عجلة هذا الكون الكبير، فينبغي أن يحكمها تشريع يتمشى مع تلك النواميس؛ ولا يتحقق هذا إلا حين يشرع لها المحيط بتلك النواميس. وكل من عدا الله قاصر عن تلك الإحاطة بلا جدال. فلا يؤتمن على التشريع لحياة البشر مع ذلك القصور.
ومع وضوح هذه الحقيقة إلى حد البداهة؛ فإن الكثيرين يجادلون فيها، أو لا يقتنعون بها، وهم يجرؤون على استمداد التشريع من غير ما شرع الله، زاعمين أنهم يختارون الخير لشعوبهم، ويوائمون بين ظروفهم والتشريع الذي ينشئونه من عند أنفسهم. كأنما هم أعلم من الله وأحكم من الله! أو كأنما لهم شركاء من دون الله يشرعون لهم ما لم يأذن به الله! وليس أخيب من ذلك ولا أجرأ على الله!
لقد شرع الله للبشرية ما يعلم سبحانه، أنه يتناسق مع طبيعتها وفطرتها وطبيعة الكون الذي تعيش فيه وفطرته. ومن ثم يحقق لهذه البشرية أقصى درجات التعاون فيما بينها، والتعاون كذلك مع القوى الكونية الكبرى. شرع في هذا كله أصولًا، وترك للبشر فقط استنباط التشريعات الجزئية المتجددة مع حاجات الحياة المتجددة، في حدود المنهج الكلي والتشريعات العامة. فإذا ما اختلف البشر في شيء من هذا ردوه إلى الله؛ ورجعوا به إلى تلك الأصول الكلية التي شرعها للناس، لتبقى ميزانًا يزن به البشر كل تشريع جزئي وكل تطبيق.
بذلك يتوحد مصدر التشريع، ويكون الحكم لله وحده. وهو خير الحاكمين. وما عدا هذا النهج فهو خروج على شريعة الله، وعلى دين الله، وعلى ما وصى به نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمدًا عليهم الصلاة والسلام.
{ولولا كلمة الفصل لقضي بينهم}..
فقد قال الله كلمة الفصل بإمهالهم إلى يوم القول الفصل. ولولاها لقضى الله بينهم، فأخذ المخالفين لما شرعه الله، المتبعين لشرع من عداه. لأخذهم بالجزاء العاجل. ولكنه أمهلهم ليوم الجزاء.
{وإن الظالمين لهم عذاب أليم}..
فهذا هو الذي ينتظرهم جزاء الظلم. وهل أظلم من المخالفة عن شرع الله إلى شرع من عداه؟
ومن ثم يعرض هؤلاء الظالمين في مشهد من مشاهد القيامة. يعرضهم خائفين من العذاب وكانوا من قبل لا يشفقون، بل يستعجلون ويستهترون:
{ترى الظالمين مشفقين مما كسبوا وهو واقع بهم}..
والتعبير العجيب يجعل إشفاقهم {مما كسبوا} فكأنما هو غول مفزع؛ وهو هو الذي كسبوه وعملوه بأيديهم وكانوا به فرحين! ولكنهم اليوم يشفقون منه ويفزعون {وهو واقع بهم}.. وكأنه هو بذاته انقلب عذابا لا مخلص منه، وهو واقع بهم!
وفي الصفحة الأخرى نجد المؤمنين الذين كانوا يشفقون من هذا اليوم ويخافون. نجدهم في أمن وعافية ورخاء:
{والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك هو الفضل الكبير ذلك الذي يبشر الله عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات}..
والتعبير كله رُخاء يرسم ظلال الرخاء: {في روضات الجنات}..
{لهم ما يشاءون عند ربهم} بلا حدود ولا قيود.
{ذلك هو الفضل الكبير}..
{ذلك الذي يبشر الله عباده} فهو بشرى حاضرة، مصداقًا للبشرى السالفة. وظل البشرى هنا هو أنسب الظلال.
وعلى مشهد هذا النعيم الرخاء الجميل الظليل يلقن الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم: إنه لا يطلب منهم أجرًا على الهدى الذي ينتهي بهم إلى هذا النعيم، وينأى بهم عن ذلك العذاب الأليم. إنما هي مودته لهم لقرابتهم منه، وحسبه ذلك أجرًا:
{قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا إن الله غفور شكور}..
والمعنى الذي أشرت إليه، وهو أنه لا يطلب منهم أجرا، إنما تدفعه المودة للقربى وقد كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم قرابة بكل بطن من بطون قريش ليحاول هدايتهم بما معه من الهدى، ويحقق الخير لهم إرضاء لتلك المودة التي يحملها لهم، وهذا أجره وكفى!
هذا المعنى هو الذي انقدح في نفسي وأنا أقرأ هذا التعبير القرآني في مواضعه التي جاء فيها. وهناك تفسير مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أثبته هنا لوروده في صحيح البخاري:
قال البخاري حدثنا محمد بن بشار، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة عن عبد الملك بن ميسرة، قال: سمعت طاووسا يحدث عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سأل عن قوله تعالى: {إلا المودة في القربى} فقال سعيد بن جبير: قربى آل محمد.
فقال ابن عباس: عجلت. إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن بطن من بطون قريش إلا كان له فيهم قرابة. فقال: «إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة».
ويكون المعنى على هذا: إلا أن تكفوا أذاكم مراعاة للقرابة. وتسمعوا وتلينوا لما أهديكم إليه. فيكون هذا هو الأجر الذي أطلبه منكم لا سواه.
وتأويل ابن عباس- رضي اللّه عنهما- أقرب من تأويل سعيد بن جبير- رضي اللّه عنه- ولكنني ما أزال أحس أن ذلك المعنى أقرب وأندى.. واللّه أعلم بمراده منا.
وعلى أية حال فهو يذكرهم- أمام مشهد الروضات والبشريات- أنه لا يسألهم على شيء من هذا أجرا.
ودون هذا بمراحل يطلب عليه الأدلاء أجرا ضخما! ولكنه فضل اللّه الذي لا يحاسب العباد حساب التجارة، ولا حساب العدل، ولكن حساب السماحة وحساب الفضل:
{وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْنًا}.
فليس هو مجرد عدم تناول الأجر. بل إنها الزيادة والفضل.. ثم هي بعد هذا كله المغفرة والشكر:
{إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ}.
اللّه يغفر. ثم.. اللّه يشكر.. ويشكر من؟ يشكر لعباده. وهو وهبهم التوفيق على الإحسان. ثم هو يزيد لهم في الحسنات، ويغفر لهم السيئات. ويشكر لهم بعد هذا وذاك.. فيا للفيض الذي يعجز الإنسان عن متابعته. فضلا على شكره وتوفيته! ثم يعود إلى الحديث عن تلك الحقيقة الأولى: